إن الإنسان يميل دائماً إلى البقاء ، وهو لا يريد البقاء لنفسه كتكوين بيولوجي وفسيولوجي فقط ، ولكن ككائن إنساني حضري ، لذلك اكتشف المدنية وقدم من الاختراعات ما يساعده على تحقيق بقائه الإنساني والحضاري .
ووسيلة الإنسان في تحقيق وجوده الحضاري هي التربية السليمة ، فالتربية تعد الإنسان للحياة والمعيشة أي تعده بالشكل الذي يمكنه من أن يكسب عيشه وبالتالي يعتبر مواطناً صالحاً مشاركاً متفاعلاً مع مجتمعه ، والتربية تعده لنوع معين من الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية ، كما أنها في هذا إنما تزود الإنسان بخبرات الأجيال السابقة وعلومها ومعارفها وطرق حلها للمشكلات الإنسانية ، كما تعده لمواجهة المشكلات التي تقابله .
التربية السليمة تساعد الإنسان في كل مكان على تحقيق وإشباع دوافعه وحوافزه وغاياته ، وغني عن البيان أن الدوافع تتعلق بحاجات طبيعية لدى الفرد كالحاجة إلى الطعام ، والحاجة إلى الماء ، أما الحافز فيتعلق بغاية اجتماعية كأن يكون الفرد محبوباً من الناس ، أو أن يكون صاحب أموال كثيرة يوجهها بالضرورة إلى مساعدة الآخرين وإلى تنمية مجتمعه الذي يحيا فيه .
والتربية عندما تشبع هذه الدوافع أو الحاجات و الغايات الخاصة بالفرد أو تساعد على إشباعها ، إنما تعمل في ضوء القيم والعادات والتقاليد والأعراف والخصوصيات والقواعد التي ارتضاها المجتمع لنفسه .
ثم إن التربية السليمة تكشف عن مواهب النشء واستعداداته وميوله ، فتعمل على إتاحة الفرص لنموها وتفتحها وصقلها وتهذيبها ، كما تعلمه الاعتماد على النفس والقدرة على الابتكار والإبداع ، وكيفية حل مشكلاته بأسلوب علمي سليم ، كما تعوده على احترام الآخر وكيفية التعامل معه من أجل واقع أفضل وأحسن للجميع .
والتربية تعمل على أن يفيد المجتمع من قدرات وإمكانيات أبنائه ، وبالتالي تستفيد الإنسانية جمعاء منها ، وقد خلقنا الله لنتبادل المعارف والآراء والأفكار والخبرات والتجارب من أجل واقع أفضل لنا جميعاً .
ولعل ما ذهب إليه (جون ديوي) فيلسوف التربية للقرن العشرين من أن التربية هي الحياة وليست إعداداً للحياة ، لعل هذا الرأي يمثل ثورة كبيرة في عالم التربية ، فهو يعتبر أن التربية والحياة شيء واحد ، فالتربية يجب أن تكون عن طريق الحياة المعاشة الواقعية ، وللحياة من أجل غد أفضل لأولادنا الذين نتمنى لهم كل الخير والسعادة .
والتربية بمعناها الاجتماعي تطالبنا بالمحافظة على المجتمع ككل ، وذلك عن طريق تلقين أفكار المجتمع ومبادئه وقيمه ومعتقداته واتجاهاته وعاداته لأفراده ، وإن كانت وظيفة المحافظة على المجتمع يصفها البعض بالرجعية أحياناً أي بالجمود ، ونحن لا نتفق مع هذا الرأي ، ونرى أنه لا يمكن أن تخلو تربية في أي مجتمع إنساني من وظيفة المحافظة على التراث الاجتماعي ، وإن كان يجب تنقية هذا التراث من الخرافات والأوهام والمعتقدات الفاسدة التي تحول دون تحقيق تقدم المجتمع ، وتنميته التنمية السليمة التي تعود على جميع أفراده بالرخاء والتقدم .
ومع هذا فالتربية مطالبة دائماً بأن تعمل على تدعيم التراث الإنساني المشترك بين المجتمعات المختلفة ، وليس في هذا أي تناقض بين التراث الإنساني الصحيح ، والتراث القومي الصحيح ، وعمل التربية هو أن توفق بين هذين النوعين من التراث لتعم الفائدة على الناشئة .
وتعمل التربية على تمكين المجتمع من التقدم و الرقي والنهوض بالمحافظة على الأصيل النافع من تراثه ، وتزويده بالمخترعات والمكتشفات الحديثة التي تدفع به إلى التحديث والتنمية ، وهذا هو جوهر الإصلاح الذي ننشده ، شريطة أن يكون هذا الإصلاح نابعاً من خصوصياتنا ، فكما نقول : إن أهل مكة أدرى بدروبها ، فنحن أيضاً كعرب وكمسلمين أعلم بشئون دنيانا ، ولا ينبغي أن نقبل ما يفرض علينا من أي جهة من الجهات مهما كانت المسميات ، واضعين في الاعتبار احترامنا لكل الآراء والطروحات والأفكار ، وعليه فإن علاقاتنا مع الآخر يجب أن تكون في إطار الاحترام المتبادل .
والتربية بالمعنى المثالي حفاظ على المثل العليا للمجتمع ، فلكل مجتمع مثل عليا يؤمن بها ، مثل عليا أخلاقية ، وأخرى قومية ، وثالثة إنسانية ، ورابعة اقتصادية ، إلى آخر نواحي النشاط الإنساني في المجتمع ، ويجب أن يكون لهذه المثل كل الاحترام والتقدير .
وإذا كانت هناك مثل عليا للإنسانية ، فهناك مثل عليا للمجتمع الواحد ، ومن هنا كان لزاماً على التربية حرصها الشديد على المثل العليا الخاصة بالمجتمع ، ونقلها إلى الأجيال الجديدة الصاعدة ، وتثبيتها بالقول والفعل في عقول هذه الأجيال التي هي أمل الأمة في النهوض والتقدم ، في نفس الوقت الذي نطالب فيه هذه الأجيال بالمحافظة عليه والتمسك بها .
نؤكد هنا على أن التربية بمفهومها الاجتماعي تهدف إلى تكوين المواطن الصالح الإيجابي الفاعل المشارك الذي يقوم بكل ما عليه من الواجبات ، ويتمتع بكل ما له من حقوق مشروعة في المجتمع ، وحبذا لو علمنا أولادنا واجباتهم جيداً ، وعرفناهم حقوقهم ، وذلك من أجل أن يسهموا بشكل إيجابي في تنمية مجتمعهم ، وفي دفع عجلة نهوضه ورقيه إلى الأمام .
وبعد ذلك نقول : إن التربية ضرورة حتمية لكل المجتمعات الإنسانية بوجه عام ، ولمجتمعاتنا العربية والإسلامية بوجه خاص والتي تسعى إلى النهوض لتحتل مكانتها اللائقة بها كما كانت في السابق ، ولتكون بحق خير أمة أخرجت للناس ، و بناءاً على ما ذكرنا ، فإنه علينا جميعاً أن نسعى إلى تربية أولادنا التربية السليمة ، فهم نصف الحاضر وكل المستقبل ، وهم أملنا في ظل ما نواجهه من تحديات .
كاتب المقال
د. يسري عبد الغني عبد الله
باحث وخبير في التراث الثقافي